فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب سراج الملوك:

في معرفة خصال ورد الشرع بها فيها نظام الملك والدول، وهي ثلاثة: اللين وترك الفظاظة والمشاورة، وأن لا يستعمل على الأعمال والولايات راغب فيها ولا طالب لها.
ولما علم الله تعالى ما فيها من انتظام الملة واستقامة الأمر نص عليها الله سبحانه ورسوله.
اعلم أن هذه الخصال من أساس الممالك وقل من يعمل بها من الملوك، اثنتان نزلتا من السماء وواحدة قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: أما الإلهية فقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159.
وفي الآية إشارتان: إحداهما أن الفظاظة تنفر الأصحاب والجلساء وتفرق الجموع والحشم، وإنما الملك ملك بجلسائه وأصحابه وأتباعه وحشمه.
وأخلق بخصلة تنفر الأولياء وتطمع الأعداء، فقمن بكل سلطان رفضها والاحتراز من سوء مغبتها، ولتكن كما قال الله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} الشعراء: 215.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا مع أصحابه، فجاء رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأبيض المتكئ. فقال الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجبتك»! دل الأثر على أنه ما استأثر بشرف المجلس ولا باينهم بزي ولا مقعد.
وقد يبلغ باللين ما يبلغ بالغلظة. ألا ترى أن الرياح تهول أصواتها فيتداخل لها الشجر وتنعطف الأفنان والأغصان، وفي الفرط تنكسر الأغصان، والماء بلينه في أصول الشجر يقلعها من أصلها. وإذا كانت الحية مع صعوبتها وسمها وتغيبها في حجرها ترقى بالكلام حتى تستعطف فتخرج، فالإنسان أحرى أن يستمال بلين القول وحسن المنطق، فإذا أردت أن تنتقم ممن يسيء إليك فكافئه بكل كلمة سوء قالها كلمة جميلة وحسن ثناء عليه.
والإشارة الثانية أنه قال: {وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159.
فإذا قيل لنا: كيف يشاورهم وهو نبيهم وإمامهم، وواجب عليهم مشاورته وأن لا يفصلوا أمرًا دونه؟ قلنا: هذا أدب أدب الله به نبيه عليه السلام، وجعله مأدبة لسائر الملوك والأمراء والسلاطين.
لما علم الله تعالى ما في المشاورة من حسن الأدب مع الجليس ومساهمته في الأمور، فإن نفوس الجلساء والنصحاء والوزراء تصلح عليه وتميل إليه وتخضع عنوة بين يديه، شرعه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذي الأمرة من أهل ملته. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأمرهم بالنزول فقال له سعد: يا رسول الله إن كان هذا بأمرك فسمعًا وطاعة، وإن يكن غير ذلك فليس بمنزل. فسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ارتحلوا! ومن أقبح ما يوصف به الرجال، ملوكًا كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأي وترك المشاورة، وسنعقد للمشاورة بابًا إن شاء الله تعالى.
والخصلة الثالثة ما روى البخاري ومسلم أن رجلًا قال: يا رسول الله استعملني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نستعمل على عملنا من أراده.
والسر فيه أن الولايات أمانات وتصريف في أرواح الخلائق وأموالهم، والتسرع إلى الأمانة دليل على الخيانة، وإنما يخطبها من يريد أكلها، فإذا أؤتمن خائن على موضع الأمانات كان كمن استرعى الذئب على الغنم. ومن هذه الخصلة تفسد قلوب الرعايا على ملوكها، لأنه إذا اهتضمت حقوقهم وأكلت أموالهم فسدت نياتهم، وأطلقوا ألسنتهم بالدعاء والتشكي، وذكروا سائر الملوك بالعدل والإحسان فكانوا كالبيت السائر الذي أنشدناه أولًا.
وراعي الشاء يحمي الذئب عنها ** فكيف إذا الذئاب لها رعاء؟

وإذا خان أهل الأمانات وفسد أهل الولايات، كان الأمر كما قال الأول:
بالملح يصلح ما يخشى تغيره ** فكيف بالملح أن حلت به الغير؟

ولغيره في مثل ذلك:
ذئب تراه مصليًا ** فإذا مررت به ركع!

يدعو وجل دعائه ** ما للفريسة لا تقع؟

عجل بها يا ذا العلا ** إن الفؤاد قد انقطع!

ومن أشراط الساعة التصدي للأمانة وخطبة الولاية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أشراط الساعة أن تكون الزكاة مغرمًا والأمانة مغنمًا، فحينئذ يدعو عليه الضعيف وأهل الصلاح ويقعد له الشرير بالمراصد ويخامر عليه القوي، ويقبح ثناؤه عند الجماعة ويتمنوا الراحة منه، وينتظرون من يصلح لها سواه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ} الآية.
قد قدمنا في سورة الفاتحة في الكلام على قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم اختلف العلماء فيها هل يدخل فيها النساء أو لا يدخلن؟ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى: {واستغفر لَهُمْ} يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور ولكنه تعالى بين في موضع آخر أنهن داخلات في جملة مَنْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لهم وهو قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إِلأ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19]. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله}:

.قال الفخر:

المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} قال قتادة: أمر الله تعالى نبيّه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يَمضِيَ فيه ويتوكّل على الله، لا على مشاورتهم.
والعزم هو الأمر المُرَوَّى المنقّح، وليس ركوب الرأي دون رَوِية عزمًا، إلا على مقْطع المُشِيحين من فُتّاك العرب؛ كما قال:
إذا همَّ ألقَى بين عينَيْهِ عزمَهُ ** ونَكّب عن ذِكر العواقِب جانِبَا

ولم يستشِر في رأيه غيرَ نفسِه ** ولم يَرض إلا قائمَ السّيفِ صاحِبَا

وقال النّقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مُبْدلة من العين.
قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النّظر في الأمر وتنقيحُه والحذرُ من الخطأ فيه.
والعزمُ قصدُ الإمضاء؛ والله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ}.
فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم.
والعرب تقول: قد أَحْزُم لو أعْزِم.
وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: {فَإذَا عَزَمْتُ} بضم التاء.
نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
ومعنى الكلام أي عزمتُ لك ووفّقتك وأرشدتك {فتوكل على الله}.
والباقون بفتح التاء.
قال المُهَلَّب: وامتثل هذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمر ربِّه فقال: «لا ينبغي لنبيّ يلبَس لأُمَتَه أن يضعها حتى يحكم الله» أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقضٌ للتوكُّل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة.
فلُبْسه لأُمَتهُ صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أُحُد مَن أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بَدْرٌ: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدوّنا؛ دالّ على العزيمة.
وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبد الله بن أُبَيّ أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإنْ هم أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن جاءونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السِّكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حار بنَا قطٌ عدوٌّ في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدوّ إلا غَلَبنا.
وأبَى هذا الرأيَ من ذكرنا، وشجّعوا الناس ودَعَوْا إلى الحرب.
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيتَه ولبِس سلاحه، فندم أُولئك القوم وقالوا: أكرهْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقِم إن شئت فإنا لا نريد أن نُكرهَك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لنبيّ إذا لبِس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل». اهـ. بتصرف.

.قال ابن عاشور:

وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول صلى الله عليه وسلم فيما عبّر عنه بـ (الأمر) وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء، والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده.
كما فعل عُمر وعُثمان.
فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] واشترطها في أمر العائلة فقال: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} [البقرة: 233].
فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها: وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمَّة.
واختلف العلماء في مدلول قوله: {وشاورهم} هل هو للوجوب أو للندب، وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام، أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم.
فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم، قال ابن خُوَيْز منداد: واجب على الولاة المشاورة، فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها.
وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنها سبب للصّواب فقالَ: والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب.
يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب.
وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه.
واعتراض عليه ابن عرفة قوله: فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة، إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازمًا به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه، يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق.
وقلت: من حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل.
وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب، ولتقتدي به الأمّة، وهو عامّ للرسول وغيره، تطييبًا لنفوس أصحابه ورفعًا لأقدارهم، وروى مثله عن قتادة، والرّبيع، وابن إسحاق.
وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله: لو كان معلومًا عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه، ثُمّ لم يكن معمولًا به، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئًا فهذا تأويل ساقط.
وقال النووي، في صدر كتاب الصلاة من شرح مسلم: الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار.
وقال الفخر: ظاهر الأمر أنه للوجوب.
ولم ينسب العلماء للحنفية قولًا في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}): هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها.
ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.
ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان، قالا: وإنَّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه.
وقد استشار النَّبيء صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر، وفي الخروج إلى أحُد، وفي شأن الأسرى يوم بدر، واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن.
والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر، وإن كانت اجتهادية، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده، فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء صلى الله عليه وسلم مع أنه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطأ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطأ باتّفاق العلماء.
ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين، قال البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه: وكانت الأئمة بعد النَّبيء صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ: كُهولًا كانوا أو شُبَّانًا، وكان وقّافًا عند كتاب الله.